الفرح بميلاد المنة كاشف الغمة
بقلم جاسم بن عيسى بن عبيد القرطوبي
الحمد لله الذي جعل محبة محمد - صلى الله عليه وسلم - من الإيمان، وجعل سُنته طريقًا لدخول الجنان، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمر بمحبة النبي العدنان، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خير مَن صلى وصام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الكرام ، وبعد فمنذ أن قطعنا من الجنة وأرواحنا تعاني مرارة البعد الأليم ، وتبحث عن منهج الحب القويم . وترجو طبيبا ماهرا يسرق الراء من الحرب ، وترجو أن ترى بعد القتل العدل ، وبعد الحسدِ المدد ؛ فجأر الكفار - رغم الهدى- مطالبين بإنزال ملك من السماء ولذلك الرد عليهم جاء : وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ . ووصف الحق حال أهل الكتاب المتعالين: وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ، نعم كفروا به رغم ثبوت ما جاء في التوراة و الانجيل اسم ( بيريكليتوس ) "periqlytos " أو " paraclytos " والتي تعني القائم بالحمد الكثير ، فعربوها إلى كلمة " فارقليط " ، ثم ترجموا هذه الكلمة بالعربية إلى " المعزَّي " ، أو " المحامي " ، أو " الشفيع ، ولكنهم رغم تخبطهم وتعاميهم اتفقوا جميعا على أنه المخلص . ولم يترك الحق سبحانه وتعالى البشرية تموج في هذا الشأن العظيم فجاء البيان كفلق الصباح بيانا : ﴿( لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ )﴾ ، .
لقد بزغت شمس الهداية بمولد هذا النبي الكريم ، ورأته القلوب هداية ودلالة دحضت به الله دياجير الغواية ؛ فاحتفل به الكون طربا واستبشارا فكل ما حدث قبل مولده عليه أفضل الصلاة والتسليم من أمور خارقات ما هو إلا مظاهر فرح عظيم به عليه أفضل الصلاة والتسليم ونتيجة لطول انتظار الأرض والسموات لميزان حكيم يوازن بين طاعة السماء لربها وبين خضوع الأرض لخالقها ، فكل ما هو فيهما ذو اتصال برب الأرضيين والسموات إلا فئة قليلة بينهما ، خطب الجهل عقلها فأفسده وأتى الميلاد النبوي فأعدل كفته (( ألَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ ۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ )). وقد رأى الصحابة جميعهم جواز الفرح به عليه الصلاة والسلام بدون نكران ؛ إذ جاء صريح القرآن : قلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ، وباركت السنة النبوية المشرفة ذلك ففي صحيح مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه ، فقال : " ما أجلسكم ؟ قالوا : جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ، ومن علينا بك ، قال : آلله ما أجلسكم إلا ذلك ؟ قالوا : والله ما أجلسنا إلا ذلك ، قال : أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ، ولكنه أتاني جبريل عليه السلام فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة " فانظر رعاك الله لإشارة : ومن علينا بك) ، وانظر إلى ما رواه الحاكم أن زحر بن حصن عن جده حميد بن منهب سمع جده خريم بن أوس يقول هاجرت إلى رسول الله ﷺ منصرفه من تبوك فسمعت العباس يقول يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك قال قل لا يفضض الله فاك قال :
من قبلها طبت في الظلال وفي * مستودع حيث يخصف الورق
ثم هبطت البلاد لا بشـــــــــــر * أنت ولا مضغــــــــة ولا علق
بل نطفة تركب السفــــين وقد * ألجم نســـــــرا وأهلـــــه الغرق
تنـــقل من صالب إلى رحـــم * إذا مضــــــى عالــــم بدا طبـــق
حتى احتوى بيتك المــهيمن من * خنــــــدف علياء تحتها النطق
وأنت لما ولدت أشـــــرقت ال * أرض وضـــاءت بنورك الأفق
فنحن في ذلك الضــــياء وفي * النور وسبل الرشـــــاد نخترق

ولست هنا متطرقا هل أحتفل أم لا بيوم مولده ؟ فتلك مسألة طرقت كثيرا بالبحث والبرهنة وإنما لتلمس الثمرة التي اكتسبها من فرحي واحتفائي بسيد الأكوان عليه الصلاة والسلام فإنـــه (( هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ )) .. لا شك أن مشاركة الأكوان عرسها بسيد الجنان يورث الحب الذي بدأه بالاشتياق إلى المحبين والمحتفيين بالجناب المحمدي سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام ففي صحيح مسلم أيضا من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي ، يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ . فأول ثمرة نجنيها بهذا الفرح هي الحب وهو مشاعر وجدانية وعواصف ميل قلب جيَّاشة، ومحبة متدفقة، تربط المسلم بالكلية إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم – شعورا وميلاً وحباً يتجلَّى فيه إيثاره - صلى الله عليه وسلم - على كل محبوب من نفس ووالد وولدٍ، والناس أجمعين . وثم يكون الاتباع نتيجة كبرى لهذا الحب ، ولنا حينها أن نترجم هذا الاتباع بلغة الحب فنحن نرتبط في هذه المحبة بالقلب والنفس، وبالعقل والفكر، وبسائر الجوارح والأحوال والأعمال، فتكمُل حينئذٍ المحبة؛ لتكون هي المحبة الصادقة الخالصة الحقيقية العملية الباطنية، فتكتمل من كل جوانبها؛ لنؤدي بعض حقِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم – علينا ، فمحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - ليست أمرًا ثانويًّا أو أمرًا مخير فيه، إن شاء المرء أحبه وإن شاء لم يحبه، بل هي واجب على كل مسلم، وهي من صميم الإيمان، ولا بد لهذا الحب أن يكون أقوى من أي حبٍّ، ولو كان حب المرء لنفسه . المحبة شرط لتحقق الايمان وتذوُّق حلاوته، وإدراك معانيه فلا شك أن سبب لدخول الجنة ومرافقة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ فقال: متى الساعة؟ قال: ((وماذا أعددتَ لها؟))، قال: لا شيء، إلا أني أحب الله ورسوله، فقال: ((أنت مع مَن أحببت))؛ متفق عليه.
هذا الحب الذي ترجمه الإمام علي بن أبي طالب عندما سئل: كيف كان حبكم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا، وآبائنا وأُمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ. وحديث أنين الجذع فليس بالعجب العجاب ال جابر راوي الحديث: فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - فضمها إليه، تئن أنين الصبي الذي يسكن، والحديث في البخاري، وكان الحسن البصري - رضي الله عنه - إذا حدث بهذا الحديث قال: "يا معشر المسلمين، الخشبة تحن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شوقًا إلى لقائه، فأنتم أحقُّ أن تشتاقوا إليه". ومن هنا قَالَ حَسَنٌ الأَشْيَبُ رَاشِدٌ, أَبُو يَحْيَى الْمَعَافِرِيُّ: ((أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيَّ, عَنِ ابْنِ عَمْرٍو قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا غَنِيمَةُ مَجَالِسِ الذِّكْرِ؟ قَالَ: غَنِيمَةُ مَجَالِسِ الذِّكْرِ الْجَنَّةُ)) وعليه أعجبني قول أحد العلماء بهذا الصدد : إذا ما عاملت إنساناً, ورأيتَ منه وفاءً، حياءً، شهامةً، مروءةً، رحمةً، عطفاً، لُطفاً، فإننا نحكم أنَّ هذا الإنسان له مجلسُ ذِكرٍ يحضره، له مشرب، له نبع يرتوي منه، له صِلةٌ بالله عزّ وجل، ما من إنسانٍ يرحمك, أو يعطفُ عليك, أو يُنصفك, أو يفي بعهده, إلا وله صِلةٌ بالله عزّ وجل :
﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى﴾

وختام هذه العجالة بأبيات بسيطة كتبتها لذلك الجناب الرفيع ، لعلها ترجمة حرفية مختصرة لما أريد التعبير به

بمدح المجتبي ينمو السرورُ
وتنشرح المسامع والصدورُ


فقل ما شئت في المختار مدْحاً
ودعْ ما قال شيطانٌ غرور
ُ
وإن المصطفى قلبٌ رحيمٌ
عظيمٌ طيِّبٌ برٌّ طهورُ

حبيبٌ كان في المعراج حقا
وجبريل الأمين له سمير
ُ
به الدنيا تباهت حين وافى
رسول الله هادينا البشيرُ

أضاءت سائرُ الأكوان نورا
بمولده فليسَ له نظيرُ

وماتت في بلاد الفرس نار
أسىً خُمدت بهِ وهيَ السعيرُ

تباشرت الوحوش به بشيرا
وحذرت الهواتف ذا نذيرُ

وزاد الأفقَ تيها نعلُ طه
ونافست البدورَ به البدورُ

أيا سرَّ الوجود حبيب ربي
بوافرِ منِّك الدنيا نظيرُ

لنا فاشفعْ وجد كرما علينا
وكن ربي لنا نعم الغفورُ

فيا ربي بالمختار أرجو

ومن شهدت لهم قدما دهورُ

وتستر كل عيب بي قبيحا
وتلطفْ يا إلهي يا بصيرُ

وصلِّ عليهِ ربي ما تناغت
حمام أو تلاطمت البحورُ

وآل ثم أصحاب وقطبٍ
دواما ما سرت في البيد عيرُ

وكل عام وأنتم بخير