المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : #مقال | الحوار .. علم وخُلُق. بقلم : سلطان القاسمي



صوت صحم للاعلام
08-02-2018, 09:50 PM
*الحوار .. علم وخُلُق*
*بقلم : سلطان القاسمي*
لعلَّ من أعظم ما تحدث به كتّابُ الحضارات، وما زانوا به منتجاتهم الفكرية، هو نقولاتهم عن الأمم في ما وصلهم من أدبِ الحوار، فقلما تجد من يتحدث عن حضارة أمة من الأمم، إلا وتحدث عن أدب الحوار أو أدب الحديث فيها.
فمعظم ما نُقلَ من منازل الأمم وفضائلها كان الحوار الحاضر الأول، والشاهد الأكبر على رقي تلك الأمم، وميزان النظر فيها، والحكم عليها، بل حتى تلك الأمم التي تخسر في جولة من حروبها ونزالاتها، تبقى محط اعتبار وتقدير ما دام يسودها الحوار والإصغاء والتواضع، فليس كل شيء هي الترسانة العسكرية، أو البارجات، فهناك الكلمة وقوة الكلمة، ومنها أدب الحوار والحديث.
وحيث أنت، وفي أي بقاع الأرض تحط رحلك، سينبئك عن أخلاق أهلها أدب الحديث وطريقة الحوار وجمال الكلمات، وتشدك إلى الإعجاب والإندهاش العبارات الجميلة العذبة، والأسلوب الغني بالتواضع والكرم.
ولعل من أهم ما امتاز به العرب هو حسن الحديث، إلى جنب الأخلاق العظيمة الأخرى من حسن الجوار والضيافة والكرم والشجاعة والفروسية والعفة وغيرها، لكنما ما كانت لتكتمل للفارس فروسيته، ولا للقائد قيادته، ولا للغني غناه، حتى يجيد الحوار ويحسن الحديث، ويسحر سامعه بجميل الحرف وعذبه، حتى ذهب قول القائل في مثل ذلك مثلا: والأذن تعشق قبل العين أحيانا.
إلا أن أكثر ما يعاب على بعض أبناء الجيل اليوم هو ميلهم إلى الحوار لمجرد الحوار دون روحه، وتظاهرهم بالمعرفة وإتيان الجدل العقيم، وتسفيه الرأي الآخر، والاعتداد بالنفس، والغرور، والمكابرة في تقبل الحق والحقيقة، والملاحاة لمجرد حتى يقال مثقف، وهو في الحقيقة لا يتجاوز أن يكون متثاقفاً، لايفقه من أصول العلم والحوار-ربما- إلا شكله، ويا ليته عرف شكله!.
لكن فات هذا المتظاهر اللحوح محب الجدل أن هذا الفعل يذهب بهيبة المرء، ويقلل من شأنه، ويخاطر بكرامته بين أصحابه وفي مجتمعه، ومما نقله الأصمعي عن إعرابي قال: من لاحى الرجال وماراهم قلت كرامته، ومن أكثر من شيء عرف به، ومما كان يوصي به سيدنا لقمان ابنه: يا بني لا تمارين حكيماً، ولا تجادلن لجوجاً، ولا تعاشرن ظلوماً، ولا تصاحبنّ متهماً.
أجل.. إن الاختلاف في الرأي أمر طبيعي جدا، لكن الحوار الذي يفضي إلى جدل ومماراة ، ويكون فيه هم المحاور إثبات صحة وجهة نظره، أو التباهي ببعض ماعنده، أو التظاهر بالسعة والشمولية، وأنه يعلم كل شيء، ويفهم في كل شيء، وأن الطرف الآخر ليس بمستوى معرفته، لا شك أن هذا حوار فقد شروط أدبه، وضعفت أركانه، وما يدري المسكين (المغرور) أن صاحبه الآخر قد يكون أعلم منه وأفقه، إلا أنه مشفق في داخله على المسكين المتثاقف، ويظل ذلك البائس يجادل حتى يسقط في نظر الآخرين.
بينما العقول المملوءة غالبا ما تتواضع، وأعمالها تتعالى، وهي تقدم ما عندها بكل أدب واحترام، دون تسفيه لرأي الآخر، أو التقليل من شأنه، أو الاستهزاء بطروحا الآخرين، إن المليء مثل السنابل الملأى، كما وصفها الشاعر:
ملأى السنابل تنحني بتواضع ...... والفارغاتُ رؤوسُهن شوامخُ
ولا تكتمل صورة المحاور الجيد، حتى يجيد الإصغاء مثلما يجيد الحوار، ويقر بفضل أهل الفضل، ويرد ما تعلمه إلى من علمه، وهذا لن يقلل من قيمة الشخص، بل العكس، سيزيد من مكانته ورفعته، يزيد من علمه ومعرفته. لاسيما إذا كان المحاور يفضي به تواضعه إلى أدب آخر وهو عدم المقاطعة، فالفارغ يقاطع، ولايريد أحدا أن يقاطعه. ومن الأدب في الحوار أن يتقبل المرء الحجة الواضحة، أو أن يلتزم الصمت حتى يتحقق، دون مماراة ومعاندة وحسب.
ثم مهما اختلف المتحاوران وهما يريدان أن يصلا إلى الحقيقة، فلن يفسد اختلافهما للود قضية، ولن يؤدي تعدد وجهات النظر إلى التباغض والتدابر.
وهنا لابد من القول إن الحوار والكلام عموما هو فن ومهارة، وأخص الجيل الجديد بنصيحة ملحة في أن يتمرن على أصول الحوار وآدابه، وأن يستزيد من المعارف إلى جنب خلق التواضع والإقرار لكل ذي فضل بفضله. وأن لا يتصنع العلم تصنعاً، ولا أن يدّعيه تكلفاً، ومن ظن نفسه يعرف كل شيء، فهو لايعرف، ويجهل فوق جهل الجاهلين.


http://www.sahmawi.com/do.php?img=6805 (http://www.sahmawi.com/)