المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مقال| بعض الأماكن ليست مجرد أماكن بقلم: رحمة الهدابية



صوت صحم للاعلام
09-13-2017, 08:46 PM
بعض الأماكن ليست مجرد أماكن

بقلم: رحمة الهدابية

هنالك أماكن من الخلل والخطأ الفادح والكبير نعتها أو وصفها على أنها مجرد أماكن للعيش والسكنى بها فقط نقضي في معظمها مجمل سنوات حياتنا المتقلبة ما بين السيئة والجميلة والتعيسة والسعيدة على حد سواء نأكل ونشرب نسرح ونمرح نفرح ونترح أو تكون لنا بمثابة مقر إلتقاء الأحبة نلتقي بهم لنتشارك معهم في داخلها وبين جنبات أركانها وزوايا جدرانها أدق تفاصيل حياتهم اليومية بحلوها ومرها وبسهلها وصعبها علاوة على ما يمرون به من ظروف معيشية مختلفة تحتم علينا الوقوف بجانبهم ومساندتهم في جميع أحوالهم في ضيقهم ورخاءهم وفي فرحهم وحزنهم دون النظر إلى ماقد نجنيه أو يمنحوننا إياه من مقابل أو مردود مادي ومعنوي إزاء ماقد أبديناه من مشاعر صادقه ونبيلة ومواقف مشرفة تنم عن محبتنا الخالصةلهم والخالية من أي أنواع المصلحة والتكلف اتجاههم.وبعيدا عما يكن ذلك المكان وما يميزه عن غيره من الأماكن الأخرى من نوع ولون وحجم وهيئة مسجدا أكان أم منزلا مطعما أو مدرسة أو أي مكان آخر اعتادت أقدامنا على وطأته والمسير إليه في مرحلة زمنية معينة من مراحل حياتنا العمرية ومن ثم قطعنا الوصل عنه وإليه بسبب ظرف من ظروف الحياة العابرة أو بسبب تغير مجرياتها أو لأي سبب آخر كان تبقى لهذه الأماكن ماضيها الجميل وعبقها الزاهي العذب ونكتها وحنينها الخاص الذي يبقى محفورا ومترسخا كرسوخ الجبال الشامخات لا تستطيع تقلبات الزمان مهما بلغت من بساطتها وليونتها أو حتى بلغت من قساوتها وجبروتها أن تعمد ولو لجزء بسيط على أن تذيبها وتزيحها من مخيلتنا أو تزيلها وتمحيها من ذاكرة عقولنا وأذهاننا . من غير أن تعود وتحمل لنا في طياتها في الناحية الأخرى أو الإتجاه المغاير المختلف أي أهمية وقيمة بالغة قصوى أو تحتل مساحة واسعة وكبيرة من ذلك الحب والعشق الصافي النقي أو من ذلك الهيام والغرام لتلك الأماكن التي عشعشت في بواطن دواخلنا وسكنت أعماق قلوبنا فهي ليست كونها أماكن لنحيا فيها لنغادرها ونتركها بموتنا ونقضي على إثرها بعضا من سنين عمرنا ما قدر لنا في العيش والتواجد على أرجاء هذه المعمورة أو هي عبارة عن أماكن اتخذت شكلا أو مجسما محددا تم على إثره بناءها على النحو الذي خطط لها من طين وماء أو أسمنت وطابوق وإنما هي أبعد وأعمق من ذلك بكثير لما حوته تلك الأماكن من ذكريات جميلة جمة يعصب نسيانها أو التنكر لأي جزء من أجزاء تفاصيلها النادرة لندرة تكرار حدوثها والرائعة بروعة من جمعتنا بهم الذين لا زلنا نحمل ونكن لهم كل الحب والود والاحترام والتقدير لخفة وجمال دقائق لحظاتها التي كانت تتطغى عليها في كثير من الأحيان نوع من الشقاوة البريئة النابعة أعماق صفاء قلوبنا التي لم تكن تعرف أي غل أو حسد أوكراهية وحقد.لذا لا عجب ولا استغراب من رفض أولئك الأبوين أو أحدهما المستميت والمتكرر وعدم إبداء أي رغبة حقيقية في الانتقال إلى ذلك المنزل الجديد الفاخر المعد والمجهز بأبهى وأجمل أنواع الزينة والمبني بأحدث أدوات ومعدات البناء الحديثة وتفضيلهما واستحسنهما المكوث والبقاء في هذا المنزل القديم الذي تهالكت أجزاءه وأركانه وتناثرت وتفتت حصى بنيانه وبات من الضرورة الملحة الانتقال إلى مكان جديد وجميل أكثر راحة وسعة كما يظنه ويعتقده الأبناء بأن منزل أبويهما أصبح ليس إلا مجرد خرابة لا يصلح للعيش فيه ويشوك أن يسقط فوق رأسيهما في وقت ممكن بسبب عوامل تقدم الزمن التي غيرت من ملامحه ومعالمه الشئ الكثير إلا أنه يظل أن يبقى في نظرهما أغلى وأثمن ماقد بقي لهما في الحياة قبل أن يغادرها ويرحلا عنها لا يضياهيه في جماله وروعته قصور الملوك والأمراء ولا حتى بيوت الأغنياء الفارهة لأن كل زواية من زواياه تحوي ذكريات كثيرة قد تشاركها مع شريك حياته الآخر وكل ركن من أركانه يروي ويحكي حقبة زمنية مهمة قد عاشاها هذين الأبوين مع أبناؤهم في أيام الطفولة فكل هذه الذكريات الجميلة لا يمكن أن تشراء وتباع أو تقدر بأي بثمن كان .كذلك هذا الأمر ينطبق على جلنا إذا ما جميعنا عندما نرى أو نمر صدفة من غير ميعاد ولا ترتيب مسبق على هذه الآثار والأطلال لتلك الأماكن التي أمست مهجورة لا أثر جنس فيها ولا بشر تفز وترتعد قلوبنا في لحظتها بنبضات مختلفة غير نبضات قلوبنا المعتادة نبضات كلها شوق وحنين لتلك الأيام الخوالي الجميلة التي عشناها بين ثنايا جدرانها وإذا ما في الأصل قد خصصنا لها أيام محددة نزوها فيها بين الحين والآخر كلما ضاقت بنا الدنيا بما رحبت وأوجعتنا وآلمتنا بثقلها وهموها التي لا تنتهي نسترق في حينها شيئا من لحظات ودقائق حياتنا القصيرة لنعود قليلا إلى الوراء إلى حيث ذلك الزمان الجميل بذكرياته الأجمل والأروع التي جمعتنا وعشناها مع من نحب من أحباب وأصحاب وأصدقاء وقد فقدناهم اليوم وأصبحوا مجرد ذكرى نجتمع ونلتقي بهم فقط في داخل خيالات منامتنا وأحلامنا فارقونا فجأة ومن دون سابق إنذار ولا استئذان وكأنهم يخبروننا بأن رؤيتهم أضحت شبة معجزة أو مستحيلة ابتعدوا عنا قهرا وفسرا تحت ضغط عناء الظروف المعيشية التي أجبرتهم وحتمت عليهم الرحيل والغربة لضمان لقمة العيش الهانئ والكريم أو قد خطفهم الموت خلسة وغدرا من بين أيدينا فبفقدناهم فقدنا شيئا من ذلك الطهر والصفاء الذي كان موجود بين ثنايا تلك الروح الباسمة و الوادعة لم نعرفه ولم نعشه إلا معهم ومن أجلهم فبقيت هذه الاماكن هي الأثر والميراث الوحيد الذي ما زال محتفظا بتلك المشاعر والأحاسيس الفياضة التي تأبى أن تزول وتختفي لأولئك الغائبون الذين رحلوا عنا بغير أمل برجعة ثانية لتكون هذه الأماكن كمؤنس وطبيب لنا يخفف لهيب ونار وطأة الشوق والحنين والحنين ذلك الشوق والحنين الذي يكوي ويحتاج صدورنا محاولين تعويضه وتخفيفه بتلك الزيارات المتفرقة بين فترة وأخرى نتلمس فيها جدرانها ونتحسس مقابض أبوابها ونفتح ما تبقى منها من نوافذ ونمسك بكلتا يدينا بحجارتها المتناثرة يميناً وشمالا لعلنا بفعلنا هذا نستطيع استراجع ولو جزء بسيط من طهر ذلك الزمان الغابر التي الحياة بمظاهرها ومادياتها الحالية طمس وتشويه صورة ما قد تبقى في داخلنا من ذلك الجمال الذي يكاد أن ينضب ويختفي فزيارتنا لها ليست على سبيل إستعادة شريط ذكريات حياتنا التي عشناها في فترة زمنية معينة فحسب وإنما نأتيها ونزورها في المقام الأول من الأجل الاستمتاع والتلذذ بهذه الذكريات لتكون لنا بمثابة مزود أو مصدر إيجابي لشحذ همم طاقاتنا وتحريك وتفجير مكامن وينابيع قوانا التي سوف تعيننا في القابل على مواجهة ومجابهة تحديات هذه الحياة بكل إرادة وعزيمة لذلك ليس جمال وروعة وأناقة الأماكن تكمن في بنيانها ومظهرها وتصميمها ولا حتى بسبب أننا نحن من نسكنها ونقطنها بل جمالها وروعتها تكمن في أنها هي من تسكننا وتتربع وتتوسط أفئدتنا وأعماقنا وتبقى عالقة في وجداننا برهة من الزمن وصح القول إذ قال إن بعض الأماكن ليست مجرد أماكن.

http://www.sahmawi.com/do.php?img=3228 (http://www.sahmawi.com/)